مدح المتنبي لنفسه

أبيات شعر المتنبي في مدح نفسه

يعتبر أبو الطيب المتنبي واحداً من أعظم شعراء العرب في العصر العباسي، وقد اشتهر بأسلوبه الفريد وقوة معانيه، فضلاً عن بلاغته اللغوية التي أضفت على شعره رونقًا خاصًا. لكن ما يميز المتنبي عن غيره من الشعراء ليس فقط براعة في الشعر، بل أيضًا قوة شخصيته واعتزازه بذاته، وهو ما يتجلى بوضوح في العديد من أبياته التي مدح فيها نفسه. لم يكن المدح الذي خص به المتنبي نفسه مجرد تعبير عن الغرور أو التفاخر العابر، بل كان تصويرًا دقيقًا لصورة الشاعر العظيم الذي يحمل في داخله إيمانًا عميقًا بموهبته واستحقاقه للخلود الأدبي.

مفهوم التفاخر في شعر المتنبي

في دراسة شعر المتنبي، نجد أن التفاخر ليس فقط ظاهرة فردية تعكس الذات بل هو جزء من مشروع أدبي وفكري يعبر عن نظرة المتنبي للعالم من حوله. فشعره في المدح، سواء كان مدحًا للذات أو للآخرين، كان دائمًا مرتبطًا بالعظمة والمجد والتفوق. ليس هذا فحسب، بل إن المتنبي كان يرى نفسه في مرتبة متفردة بين شعراء عصره، وكان يعتقد أن فنه وشعره قادران على الخلود عبر الزمن. ومن هذا المنطلق، تعد أبياته في مدح نفسه من الأبيات التي يعبر فيها عن اعتزازه بقدراته الشِعرية وفكره الفلسفي، معززًا ثقته في مكانته الرفيعة.

شموخ النفس واعتزازها

أبرز ما يظهر في أبيات المتنبي التي يمدح فيها نفسه هو الشموخ والعزة. فهو ينظر إلى نفسه كقائد فكرِي وشاعر يتفرد بخصائص لا يشاركها معه أحد من معاصريه. تجسد هذه الفكرة في قوله:

“أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صممُ”

هنا يظهر المتنبي في صورة الرجل الذي لا حدود لفنه، إذ أن كلمات شعره تتجاوز حدود السمع والرؤية؛ فهي تصل حتى إلى من لا يستطيع أن يرى أو يسمع. هذا التصوير المتفرد يعكس مدى اعتزاز المتنبي بقدراته، حيث يعتقد أن كلماته قادرة على أن تلهم الآخرين وتؤثر فيهم بطريقة تتجاوز قيود الحواس البشرية.

الثقة والاعتداد بالذات

من أبرز ملامح شخصية المتنبي في شعره هي الثقة التي لا تعرف الحدود. فهو يعتقد أن مكانته الشعرية لا يمكن أن تتأثر بزمن أو مكان، بل ستظل ثابتة مهما كانت الظروف. ومن أشهر أبياته التي تدل على اعتزازه بالذات قوله:

“وإذا أتتك ملامتي من ناقصٍ

فهي الشهادة لي بأني كاملُ”

هنا، يعلن المتنبي عن عدم تأثره بآراء الآخرين، لا سيما أولئك الذين قد يقدحون في قدراته. فهو يرى أن ملامتهم تزداد على مر الزمان، وتصبح دليلاً قاطعًا على كماله وعظمته، ما يعكس يقينًا في نفسه لا يبدله سوى الواقع أو الأحداث.

التفرد والخلود الأدبي

كان المتنبي يشدد في شعره على فكرة التفرد والخلود، حيث يرى أن شعره سيظل حيًا على مر العصور، سواء كان في مدح أو هجاء. يؤمن بأن العظمة التي منحها له شعره هي التي ستبقى بعد وفاته، وستجعله خالدًا بين شعراء العرب. وتظهر هذه الفكرة بوضوح في قوله:

“على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ

وتأتي على قدر الكرام المكارمُ”

هنا يربط المتنبي بين العزيمة والمجد والخلود الأدبي، مشيرًا إلى أن الرجال العظماء، الذين يتحلون بالعزيمة والإرادة، هم من يصنعون المجد الخالد. وبما أن المتنبي يرى نفسه في طليعة هؤلاء الرجال، فهو على يقين أن شعره سيتواصل عبر الأجيال كدليل على عظمته.

البراعة في الفصاحة والبلاغة

تظهر براعة المتنبي في استخدامه للفصاحة والبلاغة في كل بيت من أبياته. فهو لا يستخدم الألفاظ عبثًا، بل يختار كل كلمة بعناية فائقة، ليصل إلى أسمى درجات الجمال في الشعر. وفي سياق مدحه لنفسه، نجد أنه لا يكتفي بتصوير عظمته الذاتية، بل يعبر عن قدراته البلاغية التي تفوق حدود ما هو متوقع. في قوله:

“إذا غامَرتَ في شرفٍ مرومِ

فلا تقنع بما دونَ النجومِ”

هنا يظهر المتنبي في صورة معلم ومرشد، يدعو إلى السعي وراء العظمة والنجاح دون التنازل عن الطموحات الكبرى. يصرّ على أن الإنسان الذي يطمح إلى المجد يجب أن يكون مستعدًا لدفع الثمن، وأن يطمح إلى أقصى درجات المجد، مثلما يسعى هو نفسه في شعره إلى أعلى درجات البلاغة والفصاحة.

قوة الشخصية ورفض المساواة

من خلال العديد من أبياته، يعبر المتنبي عن رفضه للمساواة مع الآخرين، لا سيما إذا كانوا من الشعراء أو الحكام. فهو يعتبر نفسه في مرتبة أعلى من غيره، وهو يرى أن مكانته لا يمكن أن تكون موازية لأحد. في إحدى أشهر أبياته، يقول:

“الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني

والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ”

هنا يقدم المتنبي نفسه كرمز من رموز القوة والشجاعة، سواء في ساحة المعركة أو في مجال الأدب. تبرز هذه الأبيات كبداية لتشكيل صورة المتنبي كصوتٍ لا يمكن أن يُقارن أو يُقاس، فهو في عين نفسه يمثل المثل الأعلى للشجاعة والشعر. هذه الصورة التي رسمها المتنبي لنفسه هي صورة لا تعرف المساواة أو المقارنة مع أي شخص آخر.

الفخر بالماضي وامتلاك المستقبل

إلى جانب المدح الذاتي، كان المتنبي يتفاخر أيضًا بماضيه، حيث يعتبر نفسه متفردًا عن غيره من شعراء عصره، وأحيانًا حتى عن معاصريه. كان يعتقد أن ماضيه العظيم يعكس مستقبله المشرق، وهو ما تجسد في العديد من أبياته التي اعتبر فيها نفسه الشخص الذي لا يمكن تجاهل عظمته. في قولٍ له:

“وما كلُّ ما يتمنى المرءُ يدركهُ

تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ”

في هذا البيت، نجد المتنبي في موقف يعتقد فيه أن جميع ما يتمناه يحققه، أو أن الرياح لن تتوقف عن حمله نحو المجد الذي يستحقه، إذ يعتبر نفسه قادرًا على التأثير في مجريات الأحداث حتى وإن لم يكن ذلك دائمًا في مصلحته المباشرة.

خاتمة

يظل المتنبي نموذجًا فريدًا في الشعر العربي، ليس فقط بفضل ما قدمه من إبداع شعري بل أيضًا بسبب تصويره لقوة الذات واعتزازه بها. لقد كانت أبياته في مدح نفسه بمثابة مظهر من مظاهر فكره العميق ورؤيته للكون من زاوية العظمة والمجد. في عالمه الشعري، كان يرى نفسه خالداً، وأن كلماته ستكون ساطعة في سماء الأدب العربي على مر العصور.